شباب العراق وقود للحرب الروسية.. تجارة الموت من الوعود إلى القبور

phplove ll24 سبتمبر 2025آخر تحديث :
شباب العراق وقود للحرب الروسية.. تجارة الموت من الوعود إلى القبور

 

شباب العراق وقود للحرب الروسية.. تجارة الموت من الوعود إلى القبور

((كواليس واحدة من أخطر عمليات التجنيد العابرة للحدود))

 

إعلانية للترويج للخدمة العسكرية بموجب عقد مع القوات المسلحة الروسية في فسيفولوجسك (المصدر: رويترز)

في حرب لا علاقة لهم بها، يُزَجّ بالشباب العراقي إلى خطوط النار في أوكرانيا، حيث يُقاتلون ويموتون من أجل قضية ليست قضيتهم، وراية غريبة عنهم، وباسم دولة لا ينتمون إليها. حيث لم تكن رحلة المغرر بهم مغامرة ولا قرارا وطنيا، بل صفقة بائسة تُبرم في الظل، على حساب أحلام من دفعهم الفقر واليأس وسنوات الخراب إلى تصديق وعود مصنوعة من الوهم. يتتبع هذا التحقيق مسارات وكواليس تجنيد العراقيين في الحرب الروسية الأوكرانية، وتبعاتها الخطيرة الأمنية والسياسية.

فبين الوعود بجوازات السفر ورواتب خيالية وأرض لا تُرى إلا على الورق، يقع آلاف العراقيين في شراك التجنيد الروسي، ليصبحوا وقودا بشريا في حرب طاحنة. ومع اشتداد النزاع على الجبهات الأوكرانية وارتفاع كلفة الدم الروسي، بدأت موسكو تبحث خارج حدودها عن أجساد جديدة تلقي بها إلى المحرقة. العراق بجراحه المفتوحة وبطالة شبابه المتصاعدة، تحوّل إلى أرض خصبة لتجارة الموت هذه.

ليست المسألة مجرد أرقام أو عقود مشبوهة، بل كارثة إنسانية تتسرب من خلف الكواليس، تهدد سيادة العراق وتزج به في صراع محاور وتستنزف شبابه، وتحول فقرهم إلى سلعة في سوق المرتزقة الدولية.

في مشهد الحرب هذا، يظهر الآلاف من الشباب العراقيين، مدفوعين إلى مستقبل مجهول يبتدئ غالبا في موسكو وينتهي في مقابر أوكرانيا، ولكن ما خفي كان أعظم، فهذه الظاهرة لا تهدد أرواح هؤلاء الشباب فقط، بل تمس سيادة العراق واستقراره الداخلي، في واحدة من أخطر عمليات التجنيد العابرة للحدود.

المال مقابل الدم.. صفقات التجنيد في الظل

وتشير تقارير محلية ودولية منها تقرير صادر عن موقع Middle East Enforced في أيلول 2025، إلى أن الشباب العراقي الذين يقعون في فخ هذا التجنيد غالبا ما يغرر بهم عبر وعود استثنائية، ويضيف الموقع المتخصص في رصد النزاعات والمرتزقة أنهم “يتلقّون عروضا تتضمن مكافأة أولية تصل إلى 10 آلاف دولار، ورواتب شهرية قد تبلغ 2500 دولار، و200 ألف دولار كتعويض لأهاليهم في حال مقتلهم والعثور على جثثهم، بالإضافة إلى وعود بمنح جواز سفر روسي وقطعة أرض. هذه العروض تأتي من مجندين يعملون إما بشكل مباشر مع الروس أو عبر وسطاء عراقيين”.

لكن الواقع أكثر قسوة، فمعظم هؤلاء يزجون مباشرة في الخطوط الأمامية دون تدريب كاف لا يتجاوز شهرا ويتركون لمصير مجهول، البعض يقتل خلال أيام وآخرون يؤسرون، والحقيقة أن جميعهم ينتظرون تصنيفهم كمفقودين، وأولئك لا حقوق لهم ولا مطالب.

مقاطع مصورة – لم يتم التحقق منها – نشرها مجندون عراقيون وهم بالزي الروسي على الخطوط الأمامية في أوكرانيا تظهر واقعا صادما. يرتجف أحدهم في الثلج ويقول للكاميرا إنه “على الخطوط الأمامية” وقد لا يعود. ويحذر آخر: “لا تدع أحداً يخدعك، لا يوجد أمان هنا، الخطر أعلى من 95 بالمائة”.

مقاطع أخرى، من الصعب أيضا التحقق من زمانها ومكانها، تظهر شخصا مجندا في الجيش الروسي يتحدث باللهجة العراقية يدعي “أبو عليوو الروسي” وهو يقدم نصائح للعراقيين القادمين إلى روسيا للقتال، ويكشف عن واقع الشباب العراقي ومصير من قتل منهم في المعارك الروسية الأوكرانية:

 

صورة لجواز عراقي حاصل على فيزا روسية (المصدر: بوابة روسيا للسياحة)

تنقل صحيفة النهار اللبنانية عن مصادر استخبارية عراقية رصد شبكات تجنيد تمتلك واجهات مدنية قانونية، أبرزها مكاتب السفر وتأشيرات الدراسة، وبحسب تقرير استخباري عراقي نقلت عنه الصحيفة فإن الشبهات تتركز حول وجود بعضها في البصرة، حيث يدور الحديث عن أن جُلّ المجنَّدين من هذا المدينة، ويشير التقرير إلى أن تلك الشركات حددت شروطاً لاستقبالهم، من بينها أن يكون العمر بين 20 و30 عاما، وإتقان اللغة الإنكليزية.

وتثار الشبهات حول أن بعض هذه الوكالات تعمل بطريقة غير قانونية، حيث يعتقد أنها تصدر تأشيرات عمل أو دراسة “مزورة” تستخدم لاحقا لنقل المجنّدين إلى معسكرات تدريب روسية قبل إرسالهم إلى الجبهات. ومن الصعب التحقق من هذه المزاعم لأن الشركات تنفي هذه التهم، لكن بعض المنصات الرقمية لهذه الشركات تنشر مقاطع فيديو لمنح فيز دراسة وعمل في روسيا بكثافة خلال الأشهر الماضية. وفي هذا الصدد يلاحظ أن بعض مكاتب سفر قد تستغل رغبة الشباب في الهجرة وتحسين أوضاعهم، لكن النهاية غالبا ما تكون على جبهات القتال، لا في الجامعات.

تهديد مباشر للسيادة والأمن القومي العراقي

زجّ الشباب العراقي في حروب أجنبية لا يمثل فقط مأساة إنسانية، بل تهديدا مباشرا للسيادة العراقية، فالمرتزقة العراقيون الذين يُستخدمون كأدوات في صراعات دولية يساهمون في تحويل العراق إلى ساحة لتصدير البؤس والموت، بدلا من أن يكون بلدا يبني مستقبلا كريما لأبنائه.

وفي بلد يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية مزمنة، يُفترض أن يكون الاستثمار في الشباب أولوية وطنية، لا تسليمهم لعصابات التجنيد وسماسرة الموت. التجنيد بهذه الطريقة هو تدمير لمستقبل العراق من الداخل، وتفريغ لموارده البشرية.

البداية مع فاغنر.. أول فضيحة علنية

 

قوات فاغنر في باخموت، أوكرانيا (المصدر: BBC)

ورغم أن قضية التجنيد برزت بشكل مكثف في عام 2025، إلا أن بداياتها تعود إلى عام 2023، عندما تم تسجيل أول حالة علنية آنذاك، حيث أعلنت مجموعة فاغنر، الميليشيا الروسية المعروفة، عن مقتل شاب عراقي يُدعى عباس وتويت من محافظة بابل، واصفة إياه بالبطل. وتورد تقارير صحفية أن عباس نقل من أحد السجون الروسية إلى جبهة باخموت، حيث قُتل في واحدة من أكثر المعارك وحشية في الحرب.

عاد جثمانه إلى العراق في نعش، ليكون أول مؤشر على حجم الكارثة القادمة. ومع تمرد فاغنر في 2023 ومقتل مؤسسها لاحقا، تفككت الشبكة، لكن الجيش الروسي ورث نموذجها بحسب تقارير دولية، فبدلا من الميليشيا، أصبحت الدولة نفسها تُشرف على التجنيد: تجوب السجون ومخيمات اللاجئين والمجتمعات التي ترزح تحت ضغط الفقر، بحثا عن وقود بشري.

شبهات بوجود بصمات سياسية وجماعات مسلحة

 

صورة لمقطع فديو متداول يظهر شابان مجهولان يقولان بلكنة عراقية إنهما خلف ضابطة استخبارات روسية (من الصعب التحقق منه)

ووفق تحقيقات صحفية واستطلاعية، فإن هناك شبهات قوية حول تورط سياسيين وجماعات مسلحة في عمليات تجنيد مقابل عمولات مالية ضخمة. وتشير تلك التحقيقات إلى أن بعض الدول الأوروبية أبدت قلقها من تورط أطراف سياسية في هذه العمليات، وقد تُجري تحقيقا أوليا حول موضوع تجنيد المرتزقة من الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق.

ولطالما أعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه من أنشطة مجموعات مرتبطة بهذا الملف وأدوارهم المزعومة في استخدام المرتزقة في النزاعات. وبحسب البيان الصادر في 15 أيلول 2025 من الاتحاد الأوروبي أمام مجلس حقوق الإنسان، ضمن جلسة الحوار التفاعلي مع “Working Group on mercenaries”. عبّر الاتحاد عن قلقه من وجود كيانات غير حكومية وخاصة شبيهة بمجموعة فاغنر، مسؤولة عن انتهاكات إنسانية وأنشطة مزعزعة للاستقرار في أجزاء متعددة من العالم.

وكانت مؤسسة أريج انترناشونال وهي منظمة تعمل في مجال الصحافة الاستقصائية وتدقيق المعلومات في العالم العربي، قد توصلت الى واحدة من شبكات التجنيد في الشرق الأوسط وإحداها في اليمن، وحصلت على وثائق تثبت تورط شبكات متشعبة روسية لها علاقة مباشرة مع متنفذين في عدة دول، وقد أثارت المؤسسة ملف ضابطة سابقة في الجيش الروسي اسمها بولينا إلكسندروفا، وهي تمتلك شركة للتجنيد أيضاً.

الأجهزة العراقية تعرف.. وتحاول

وتشير تقارير إلى أن جهودا حكومية ونيابية بدأت تتحرك لاحتواء الأزمة، وعلى سبيل المثال، أكد أحد أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في تصريح أوردته Middle East Forum، أنه سيتم التحرك داخل مجلس النواب للوقوف على تفاصيل هذا الملف ووضع حد له، مشيرا إلى أن من يتم تجنيدهم يغادرون العراق عبر شبكات الاتجار بالبشر أو بذريعة السياحة أو العلاج الطبي. وبعضهم يسافر مباشرة إلى روسيا، فيما يمر آخرون عبر دول ثالثة.

كما حاولت السفارة العراقية في موسكو التدخل لوقف تدفق الشباب، وصدرت تعليمات بتشديد الرقابة على مكاتب السفر.

ففي 5 أيلول 2025، حذّرت سفارة العراق في موسكو في بيان نشرته وزارة الخارجية، من محاولات استدراج وتوريط للعراقيين المقيمين في روسيا، من قبل شخص يدّعي تمثيل الجالية العراقية في روسيا.

وقالت السفارة في بيان، “تود سفارة جمهورية العراق في موسكو أن توضح لأبناء الجالية العراقية المقيمين في روسيا الاتحادية، أن ما تم تداوله على بعض مواقع التواصل الاجتماعي من قبل شخص يدعي زوراً تمثيل الجالية العراقية في روسيا، هو ادعاء باطل ولا أساس له من الصحة”.

وأكدت السفارة، أنها “لا تصدر مطلقاً أي سمات دخول مرتبطة بمثل هذه الادعاءات المضللة، وأن الجهة الوحيدة المخوّلة بإصدار سمات الدخول إلى الأراضي الروسية هي سفارة روسيا الاتحادية في بغداد وقنصلياتها في أربيل والبصرة حصراً”.

وأضافت، “كما تُجدد السفارة تأكيد موقف العراق الثابت بالحياد إزاء الأزمة الروسية – الأوكرانية، ودعوته الدائمة إلى اعتماد الحلول السلمية وإنهاء الصراع عبر الحوار، وفي هذا السياق، تُحيط السفارة أبناء الجالية علماً بعدم وجود أي ممثل رسمي مُخوَّل للجالية العراقية في روسيا الاتحادية، لا من الجانب العراقي ولا من الجانب الروسي، وتُحذّر من الانخداع بمثل هذه المزاعم أو التعامل معها”.

وتابع بيان السفارة، “وفي هذا الصدد، تُحذّر السفارة من محاولات استدراج أو توريط بعض العراقيين المقيمين في روسيا أو خارجها تحت ذرائع مختلفة للمشاركة في الحرب، مؤكدةً رفضها القاطع لمثل هذه الممارسات”، داعيةً أبناء الجالية إلى “توخّي الحيطة والحذر وعدم الانجرار وراء هذه الأساليب المضللة”.

لكن الجهود الرسمية إلى الآن لا ترقى لمستوى التحدي، فالشبكات التي تُجند تعمل تحت غطاء قانوني وتستخدم واجهات متعددة، ما يصعّب ملاحقتها، وفي ظل عدم وجود تحقيقات كافية أو عقوبات رادعة، يستمر النزيف البشري.

وطن يفرّط بشبابه.. يفرّط بمستقبله

أمام هذا الواقع الكارثي، يقع على عاتق الحكومة والقيادة العراقية، سياسيين وأمنيين، مسؤولية التحرك بسرعة لحماية الشباب من الاستغلال. وفي هذا الإطار تبرز دعوات لغلق مكاتب السفر المتورطة، وتشديد الرقابة على التأشيرات، وفضح المتورطين من مسؤولين أو جماعات مسلحة، فالصمت في مثل هذه القضايا يعد جريمة، والحل يبدأ بالاعتراف، ثم بالمحاسبة، وأخيرا ببناء بدائل اقتصادية حقيقية تحصّن الشباب من السقوط في فخاخ المرتزقة، إذ لا مستقبل لوطن يفرّط بشبابه، ولا نهضة ممكنة دون أن تتحمل الدولة كامل مسؤوليتها في حماية أبنائها، وتوفير بدائل حقيقية تضمن لهم كرامة الحياة، لا مذلة الموت في حرب لا علاقة لهم بها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة