“فَرِحَ المُخَلَّفُون”.. حين يتكرّر المشهدُ ويفرحُ المُخلَّفون بمقاعدِهم….
بقلم : حسن الوائلي
في كلّ عصرٍ، يُبعث “المُخلَّفون” من جديد.
لا يحملون اسمهم القديم، ولا يعترفون بأنّهم ورثةُ أولئك الذين تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لكنّهم يشبهونهم في كلّ شيء: في الموقف، وفي الحيلة، وفي الأعذار التي تُخدّر الضمير.
قال تعالى:
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ (التوبة: 81)
كانت حرارةُ الشّمسِ يومَها حجّةَ القاعدين، واليوم صارت “الظروف” و“الوقت غير المناسب” و“المصلحة العليا” هي الحُجَجُ ذاتها بثيابٍ مختلفة!
في وطنٍ جريحٍ كعراقنا، يتخفّى كثيرون خلف ستار الصّمت، ويفرحون بمقاعدهم الوثيرة في مكاتب السلطة أو في ظلال الحياد، كأنّ الوطن لا يحتاج منهم إلا التبرير.
منهم من يصمت لأنّ الكلمة تُزعج الأقوياء،
ومنهم من يتقاعس لأنّ الفعل مكلف.
كم من مسؤولٍ أو سياسيٍّ أو مُتصَدٍّ اليومَ يفرح بمقعده خلفَ الكواليس، فيما الوطن يئنّ تحت أعباء الفساد والظلم والتراجع؟
وكم من صاحبِ منصبٍ يختبئ وراء شعاراتٍ واهية، ويبرّر صمته أو تقاعسه بذرائع “الظروف” و“الوقت غير المناسب” و“المصلحة العامة”؟
وكم من مثقفٍ أو صاحب قلمٍ يختار الصمت لأنّ قولَ الحق “قد يُزعج البعض”، فيفرح بمقعد السلامة وينسى أنّ للكلمة موقفاً، وللصمت ثمناً.
ومنهم مَن يختبئ في جملةٍ مريحة: “ما باليدِ حيلةٌ.”
مُتناسياً أنّ اليدَ قادرةٌ حين تمتدُّ بالصدق،
واللسانُ قادرٌ حين ينطقُ بالحقّ،
والقلبُ قادرٌ حين ينبضُ بالضّمير.
غيرَ أنّ الخوفَ يقتلُ القُدرة، والعذرَ يُزيّنُ القعود، حتى يصبح الصّمتُ طقساً يوميّاً نؤدّيه ونحن نُقنع أنفسنا أنّنا حكماء لا جبناء، وأنّ السكوتَ موتٌ بلباسٍ جميل.
إنها ثقافةُ التخلّف عن الواجب، التي تبدأ من التهاون في أداء الأمانة وتنتهي بتطبيع الفساد والسكوت عن الباطل.
هي حالةٌ نفسيّةٌ وأخلاقيّة تقتل روحَ الإيمان والانتماء، وتجعل صاحبَها يرى في العذر مبرّراً، وفي التقاعس ذكاءً!
ولنتذكّر دائماً أن الخطرَ لا يبدأ حين يعلو صوتُ الفاسدين، بل حين يخفُت صوتُ الشرفاء.
فما أكثر الذين برّروا سكوتَهم بحكمةٍ زائفة، حتى صار الفسادُ واقعاً، وصار الإنكارُ “تطرّفاً”، وصارت كلمةُ الحقّ مغامرةً لا يَقدِم عليها إلا القلائل.ش
وهكذا يصبح الوطنُ كالسّفينةِ التي تتسرّب منها المياه، فيما ركّابُها يتجادلون حول لون الطلاء!
كلٌّ يبرّر، وكلٌّ ينتظر، حتى تغرقَ بالجَميع.
القرآنُ الكريم لا يروي القصص ليؤرّخ الماضي، بل ليحاكم الحاضر.
وآيةُ “المُخلَّفين” لم تُكتَب لتوبّخ قوماً رحلوا، بل لتوقظ فينا ذلك السؤال القاسي:
هل نفرح نحن أيضاً بمقاعدنا حين يُنادى الوطن؟
هل نصمت ونبرّر ونحسب أنّنا في أمانٍ لأنّنا لم نُؤذِ أحداً؟
فما بين امتحان الإيمان بالأمس، وامتحان المواطنة اليوم، لا يختلف المشهدُ إلا بالأسماء.
إنّ القعودَ عن الواجب، في كلّ زمان، إيذاءٌ صامت، وجريمةٌ ترتكبها الأرواحُ وهي تبتسم.
فما بين حرارةِ الشّمس يوم “تبوك”، وحرارةِ الأزمات في عراق اليوم، يقفُ الموقفُ ذاته على مفترقِ الطريق:
إمّا أن تنفر، أو أن تقعد.
إمّا أن تكون من العاملين، أو من المعتذرين.
والتاريخ لا يرحم المتفرّجين،
والأوطان لا تُبنى بالحياد،
والله لا يغفر لمن قعد عن الحقّ وهو قادرٌ عليه:
﴿وَقَعَدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾
فاختر لنفسك أين يكون مقعدك،
قبل أن يُختار لك